الحياة كرقعة شطرنج: كش ملك! أعد اللعبة

أعتبر نفسي من هواة اللعب مع الشطرنج والحياة على حد سواء، حيث أستمتع باللعب بين فترة وأخرى، وأحب دائما أن أستلهم الحياة من لعبة الشطرنج.

أحجار على رقعة شطرنج

Black and White Chess Pieces on Chess Board – pexels.com

تضحية ضرورية!

في الشطرنج لديك صف من الجنود الذين يدافعون عما هو أغلى منهم في الخلف، ولا يمكن لمباراة أن تنتهي دون خسارة أي قطعة أصلا! وإن حصل فهي حالات أندر من أن توجد.

الجنود هؤلاء هم التضحيات الصغيرة التي لابد أن نقوم بها كي ننقذ المهام الأكبر في حياتك، وأحيانا حتى ننقذ نفسياتنا أو عقلنا أو صحتنا، والتي يمكن إن أردنا تمثيلها في الشطرنج، فكلها ستجتمع في قطعة (الملك) بلا شك!

وبين المهام الكبرى، قد تضطر أحيانا للتضحية بأحدها، كما هو الحال في اللعب المفتوح، إن اضطررت للاختيار بين فيل وحصان، فعليك بالتضحية بالحصان، فالفيل هو سيد الموقف في المباريات المفتوحة، بينما في المباريات المغلقة يكون للحصان أهمية كبرى، فلا يمكنك عندها سوى فعل العكس.

وفي الحياة أيضًا، هناك مواقف يجب أن تختار فيها التضحية حسب سير الأحداث الزمني، وليس حسب تفضيلك للشيء في نفسه، فإن أطحت بفيلك في الوقت الذي يجب فيه أن تطيح بالحصان، فأنت تلكم نفسك لكمة جديدة، تبعدك إلى الهاوية أكثر.

ونعود لرقعة الشطرنج، حيث تختلف قيمة كل قطعة، فالتضحية بالرخ (القلعة) لأجل حماية ما هو أقل منه، غير مقبولة، فهو أغلى من الفيل حسب الترتيب الشطرنجي للقطع، بينما التضحية به لأجل حماية الوزير مفهومة ومقبولة جدا، لكن التضحية به لأجل الملك ضرورية وأساسية، وقد يكون هذا خيارك الوحيد، فإما أن تلعبه وإما أن تنسحب، لا ثالث لهما. 

وهكذا هي الأحداث والمميزات الكبرى في حياتنا، حيث يمثلها الرخ. إكمال التعليم هامٌ جدًا، لكن ربما تضطر لتركه بسبب مرض ما، فأنت تترك التعليم لإنقاذ صحتك، تترك الرخ لإنقاذ ما هو أهم منه، أو ربما تتركه لأجل إعالة أسرتك التي أنجبتك، فأنت هنا تتركه لإنقاذ الملك، وهذا ضروري لأن لعبة الحياة لا انسحاب فيها، فإما أن تتركه أو تتركه، الشيء الوحيد الذي تستطيع اختياره هو (طواعيةً أو كرهًا؟).

العلاقات ضرورية، لكنها إن أصبحت سرطانًا يسبب لك التراجع، فأنت مضطر لاستئصالها، مضطر لأن تتخلص من الرخ بوضعه في قلب منطقة الحجار السوداء، فقط كي تحمي ما هو أهم منه.

وأخيرًا، هناك المنعطفات الأهم في حياتنا، التي تعيد تشكيل سلوكنا كاملًا، ربما هي غربةٌ، أو موت عزيزٍ، أو خيانة محبٍ أو غير ذلك، والتي تمثل الوزير.

هنا؛ يفترق لاعبو الشطرنج؛ بين محترفٍ وهاوي، فما إن يخسر الهاوي وزيره حتى يبدأ بالتخبط وتوزيع حجاره مجانًا، ويعامل الوزير معاملة الملك، يعامله وكأنه أساس اللعبة كلها، بينما يقف المحترف حذرا ومفكرا بكل الخيارات الممكنة، بينما يقوم البعض بالانسحاب بعد موت الوزير.

هؤلاء هم المنسحبون من منعطفات الحياة الكبرى، حيث يتعاملون بنظام النعامة، فهن يهربون ظنًا بأن الحياة ستهرب منهم كما يهربون منها، لكنهم نسوا أنها لابد أن تعاش، وأنك لابد أن تكمل اللعبة طالما أنت هنا، تذكر دائما: مجرد فقدانك لخيارٍ ما في اللعبة لا يعني انتهاءها بالنسبة لك، ففي أسوأ الأحوال؛ لا يزال لديك حل الاتجاه للتعادل.

دوامة الخيارات

تعلمك الشطرنج أيضًا حساب الخيارات؛ فأنت لا تنقل نقلة قبل أن تحسب كل الإيجابيات الممكنة من هذه النقلة، وكل السلبيات ونقاط الضعف التي ستتسبب بها، وأحيانًا تحسب ذلك لعدة نقلات تالية، ليس فقط نقلة واحدة.

وفي نفس الوقت يجب عليك أن تحسب حسابًا مشابهًا لنقلات الخصم كلها، ونقلات الخصم تلك هي المفاجآت الحياتية، وأي شخص يحسب نقلاته كلها بطريقة صحيحة 100% لكن دون الالتفات لنقلات منافسه؛ خاسر بشكل مؤكد.

بين كل الحروب الشطرنجية التي يخوضها المرء، هناك دائمًا استثناءات، أحيانا تقتل أغلى قطعك لأنك ترى أنه من الممكن الفوز بحركتين أو ثلاث بعد قتل تلك القطع، لا يوجد قانون صالح دائمًا؛ الإبداعات التفكيرية، ومفاجأة الخصم، والصمود النفسي أمام فقدان القطع الثقيلة؛ كل ذلك هو ما يضمن لك الفوز في الشطرنج.

وبينما يقف المراقب من الخارج، فمهمتك أن تقرر أي الشخصين هو؟ خبيرٌ باللعبة فتراه يستعرض خياراتك ويحاول استنتاج خطوتك التالية، أم غير عالمٍ باللعبة أصلا فتراه مستغرباً من حمقك للعب تلك القطعة هنا والأخرى هناك؟ ميّز بينهما جيدا؛ فالأول هو القابل للاستشارة في هذه الحياة، بينما الثاني هو الذي سيدمر لك حياتك بمساعدة منك.

ووفي الشطرنج لابد أن تتطور باستمرار، بأدواتك وقدراتك التحليلية والتفكيرية والإبداعية، حتى تبقى ملائمًا للشطرنج، فلا يمكنك الانقطاع لسنوات ثم العودة مع توقع نفس المستوى، وميزان الحياة كما هو ميزان الشطرنج (الحركة الدائمة دون توقف).

إن الحياة ما هي إلا لعبة شطرنج، لو استطعنا استيعابها بهذه الطريقة، وفهم كل مشكلة حسب سياقها، وكل تضحية حسب ما تساويه من القطع، والمحافظة على الملك في قمة حمايته وهدوئه، وفهم النقلات التالية والسابقة، والتعلم من أسلوب المنافس في اللعب لمعرفة طرق الانقضاض عليه، وغير ذلك من المهارات التي تقدمها الشطرنج؛ فإنه بإمكاننا أن نلعب مع الحياة بطريقة أفضل بكثير، أن نعلن لها أننا ندٌ يستحق أن تتعب لأجل كسره، أن نفوز مرات ونخسر مرات، فالفوز الدائم ممكن في الشطرنج لكنه غير ممكن في لعبة الحياة.

هي الحياة رقعة كبيرة، غير أن اختلافها الحقيقي في عنصر المفاجأة الوقتية الذي تملكه، فمرةً تملك سنة للعب الحركة التالية، ومرة تملك ثوانٍ معدودة، والعاقل من فاز بمحصلة المباريات، لا من فاز مرة باكتساح، ثم انتقل من خسارة إلى أخرى دون أن يطور قدراته في اللعب أو يحاول فهم المنافس، إنها الدنيا، وإنها الشطرنج، فالعبها كما تشاء!

شكرا لوقتكم الثمين، ودمتم بودّّ.